الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن من منة الله سبحانه أن جعلنا من هذه الأمة المباركة، من خير أمة أخرجت للناس، من أمةٍ اختصها الله بخير الرسل وخير الكتب وخير الشرائع. هذه الشريعة الخاتِمة الكامِلة التي ما من خير للناس في حياتهم ومعادهم إلا واشتملت عليه وقررته، وما من شر ولا مفسدة إلا حرَّمته وحظرته، كما قال سبحانه ممتناً علينا: (اليوم أكلمت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً).([1])
فكان من مقتضيات تمام الإيمانِ، اليقينُ أن صلاح اقتصاديات الناس وأسواقهم وتجارتهم وأموالهم تجنيبها كل ما نهى الله عنه ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم –من ربا وغرر ومقامرة وأكل أموال الناس بالباطل وغيرها-، وفي استجماعها لما أوجبه الله في العقود من وفاء وصدق وتراضٍ وغيرها.
وانطلاقاً من هذا الأساس فقد نشأت الصناعة المالية الإسلامية في الواقع المعاصر ونمت؛ حتى بلغت إلى مكانتها السامقة التي وصلت إليها، مع ما تشهده من نسبِ نموٍّ تفوق جميع القطاعات المالية الأخرى لتكون رحمة للعاملين وللناس أجمعين.
وقد كان وما زال وسيظل حجر الزاوية في هذه الصناعة، وأسّها وغرتها وتاجها هو انضباطها بالأحكام الشرعية في ظل اجتهاد علماء الأمة وتنزيلهم لنصوص الكتاب والسنة على واقعها.
وعليه فقد كان من أهم ما أنتجه الاجتهاد الفقهي المعاصر في فقه المعاملات المالية هو (المعايير الشرعية) الصادرة عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية (أيوفي)، والتي بلغت بفضل الله ومنته أربعةً وخمسين معياراً عالجت تفصيلاتِ جزءٍ كبيرٍ من عقود الصناعة المالية الإسلامية ومنتجاتها (بما تشتمل عليه من مصرفية، وتكافل، ومصرفية استثمارية، وأسواق المال ومنتجاتها، وشركات تمويل، وغيرها).
وقد جعل الله لهذه المعايير القبول، وعمَّ بنفعها حتى بلغت الآفاق من أقصى الدنيا إلى أدناها؛ بل إنه يمكن القول بأنها أصبحت المرجع الأبرز والأهم للصناعة المالية الإسلامية على مستوى العالم كله من جهات تشريعية وإشرافية ورقابية وبنوك وشركات استثمار وتأمين وتمويل، وغيرها من الجهات المهنية الداعمة كالمحامين والمحاسبين والاستشاريين، بالإضافة إلى الجامعات ومراكز البحث وجهات الفتوى الرسمية وغيرها، بل إن هذه المعايير قد أصبحت في أماكن متعددة أشبه بقانونٍ حاكمٍ تشير لها الاتفاقيات والعقود، كما إن مجموعةً من البنوك المركزية والسلطات المالية في مجموعة من الدول قد اعتمدت هذه المعايير رسمياً باعتبارها إلزامية أو إرشادية، وتسارعت إلى تطبيقها المؤسسات المالية الإسلامية الرائدة في مختلف أنحاء العالم؛ وعليه فإن معايير أيوفي تعد بكل تجرد مفخرةً من مفاخر الصناعة المالية الإسلامية وأحد أهم منجزاتها.
وما كان لهذه المعايير أن تتبوأ هذه المكانة السامقة، ويكون لها هذا الأثر البالغ بعد توفيق الله وفضله ومنته إلا نتيجة لجهود عظيمة بذلها نخبة من علماء الأمة وفقهائها وجمعٍ من خبرائها في ساعات طوال محتسبين لا يتقاضون على ذلك من متاع الدنيا قليلا ولا كثيراً.
كما إن خلف تميُّز هذه المعايير جملة عوامل، من أبرزها: المنهجية العلمية المتقنة التي تتكون منها دورة إصدار المعايير، والتي قد تصل إلى ما يزيد عن عشر مراحل؛ بين إعدادِ عالمٍ أو خبيرٍ لدراسةٍ مفصلة حول موضوع المعيار، ثم مناقشة هذه الدراسة مع إحدى اللجان المتخصصة المتفرعة عن المجلس الشرعي، ثم تكليف العالم أو الخبير بإعداد مسودة المعيار، ثم عرضه ومناقشته وتنقيحه من إحدى لجان المجلس الشرعي، ثم عرضه وتحكيمه ومناقشته وإحكام صياغته من المجلس الشرعي الموقر، يلي ذلك عرض مشروع المعيار في جلسة استماع علنية -أو أكثر- على الصناعة المالية الإسلامية لمناقشته مع الفقهاء والخبراء والمتخصصين والعاملين في المؤسسات المالية الإسلامية للتحقق من عمقه وجودته وتغطيته للجوانب العملية التطبيقية والنوازل التي يواجهها المطبِّقون في الصناعة، ثم إعادة مناقشة ملاحظات جلسات الاستماع في المجلس الشرعي وتعديل ما يراه المجلس، وانتهاء بعرضه على لجنة مختصة بالصياغة لإحكام شكله وألفاظه، ثم انتهاء بنشره.
كما إن من أهم المزايا أن هذه المعايير تصدر عن مجلسٍ شرعيٍّ يضم قرابة عشرين فقيها من العالم كلِّه لضمان عالَمية هذه المعايير واستيعابها للبيئات المختلفة وتنوع قوانينها وأعرافها وتطبيقاتها، بالإضافة إلى التنوع في الخلفية العلمية للفقهاء أعضاء المجلس من خلال تمثيل جميع المذاهب الفقهية المعتبرة من جهة، وتنوع تخصصاتهم العملية (من قضاء وفتيا وتدريس واستشارات وبحث وتأليف ومحاماة واستشارات اقتصادية ومالية وغيرها) من جهة أخرى. كذلك فإن هذه المعايير مع عنايتها بتحرير ما قرره فقهاء الأمة في مدوناتهم عبر القرون في أبواب المعاملات المالية والاختيار منها والترجيح وإعادة صياغة ذلك في قالب معيار منمَّطٍ مبوَّب، فإنها في الوقت نفسه تولي عناية كبيرة بمعالجة التطبيقات العملية والنوازل التي تشتمل عليها العقود والمنتجات وأعمال المؤسسات المالية وغيرها وضبط مصطلحاتها واستجلاء ما يحتف بها من جوانب فنية وقانونية ومحاسبية ومالية وتسويقية وغيرها، وتكييفها وبيان حكم الشرع فيها والتفريق بين الحرام والحلال منها في صياغة مختصرة متقنة.
هذا ولكون الصناعة المالية الإسلامية هي صناعة تتسم بسرعة المستجدات والتغيرات فقد أخذ المجلس الشرعي على عاتقه مراجعة المعايير التي أصدرها، وكوَّن من بين أعضائه لجنة خاصة لذلك، لمراجعة أية ملاحظات ترد من العلماء أو الخبراء على المعايير شكلاً أو مضموناً، ولضمان سرعة تلبية حاجة الصناعة من جهة معالجة المستجدات فيها؛ وعليه فإن مراجعات المجلس الشرعي للمعايير قد نتج عنها ثلاثة أنواع؛ أولها: المعايير التي يتم تحديث صياغة بعض بنودها وفقراتها لدفع لبس في المعنى أو لتجلية حكم أو لاختيار تعبير أدق ونحو ذلك، وأما الثاني منها فهو لإضافة فقرات للمعيار أو حذف فقرات منه أو دمج بعضها ونحو ذلك، بما لا يخل بالهيكلة العامة للمعيار، وأما النوع الثالث فهو للمعايير التي يرى المجلس إعادة إعداد المعيار فيها بشكل كامل؛ لتغطية حجم المتغيرات العملية في موضوع المعيار، مثل معيار الصكوك ومعيار البطاقات وغيرها من المشروعات التي بدأ فيها العمل بفضل الله ومنته.
وقد اشتمل هذا الإصدار على جملة من المعايير التي تمت مراجعتها وتعديلها (من النوع الأول والثاني من المراجعات المشار إليها أعلاه)، وقد تم تمييز هذه المعايير التي تمت مراجعتها وتعديلها في هذه الطبعة من خلال وسمها في صفحة عنوان كلٍّ منها بـ: (معيار معدَّل).
وإنا نحمد الله سبحانه أن هيأ إصدار هذه النسخة الجديدة في هذه الحلة القشيبة، وبإصداريها الورقي والإلكتروني بعد عام واحد فقط من النسخة السابقة، وبإضافة ستة معايير جديدة، كما نبشركم بأن مجموعة أخرى من المعايير الشرعية الجديدة يجري العمل على إصدراها وهي في مراحل مختلفة من الإنجاز.
وقبل أن أختم أود أن أشير بأننا نرحب أبلغ ترحيب بأي ملاحظة أو تصويب أو اقتراح على المعايير الصادرة أو اقتراح معايير جديدة، وذلك على البريد الإلكتروني Sharia@aaoifi.com .
وتفضلوا بقبول جزيل تحيتي ووافر تقديري،،